كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{الذين هم في صلاتهم خاشعون}.. تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات. ويغشى أرواحهم جلال الله في حضرته، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، ولا تشتغل بسواه وهم مستغرقون في الشعور به مشغولون بنجواه. ويتوارى عن حسهم في تلك الحضرة القدسية كل ما حولهم وكل ما بهم، فلا يشهدون إلا الله، ولا يحسون إلا إياه، ولا يتذوقون إلا معناه. ويتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة؛ فما يضمون جوانحهم على شيء من هذا مع جلال الله.. عندئذ تتصل الذرة التائهة بمصدرها، وتجد الروح الحائرة طريقها، ويعرف القلب الموحش مثواه. وعندئذ تتضاءل القيم والأشياء والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله.
{والذين هم عن اللغو معرضون}.. لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور. إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر.. له ما يشغله من ذكر الله، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق. وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب، ويشغل الفكر، ويحرك الوجدان.. وله ما يشغله من تكاليف العقيدة: تكاليفها في تطهير القلب، وتزكية النفس وتنقية الضمير.
وتكاليفها في السلوك، ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان. وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف. وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها، والسهر عليها من كيد الأعداء.. وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه منها، وهي مفروضة عليه فرض عين أو فرض كفاية. وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري. والطاقة البشرية محدودة. وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها؛ وإما أن تنفق في الهذر واللغو اللهو. والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح.
ولا ينفي هذا أن يروح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين. ولكن هذا شيء آخر غير الهذر واللغو والفراغ..
{والذين هم للزكاة فاعلون}.. بعد إقبالهم على الله، وانصرافهم عن اللغو في الحياة.. والزكاة طهارة للقلب والمال: طهارة للقلب من الشح، واستعلاء على حب الذات، وانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر، وثقة بما عند الله من العوض والجزاء. وطهارة للمال تجعل ما بقي منه بعدها طيباً حلالا، لا يتعلق به حق إلا في حالات الضرورة ولا تحول حوله شبهة. وهي صيانة للجماعة من الخلل الذي ينشئه العوز في جانب والترف في جانب، فهي تأمين اجتماعي للأفراد جميعاً، وهي ضمان اجتماعي للعاجزين، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكيك والانحلال.
{والذين هم لفروجهم حافظون}. وهذه طهارة الروح والبيت والجماعة. ووقاية النفس والأسرة والمجتمع. بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلال، وحفظ القلوب من التطلع إلى غير حلال؛ وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب، ومن فساد البيوت فيها والأنساب.
والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد. لأنه لا أمن فيها للبيت، ولا حرمة فيها للأسرة. والبيت هو الوحدة الأولى في بناء الجماعة، إذ هو المحضن الذي تنشأ فيه الطفولة وتدرج؛ ولابد له من الأمن والاستقرار والطهارة، ليصلح محضناً ومدرجاً، وليعيش فيه الوالدان مطمئناً كلاهما للآخر، وهما يرعيان ذلك المحضن. ومن فيه من فراخ!
والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية، فالمقياس الذي لا يخطئ للإرتقاء البشري هو تحكم الإرادة الإنسانية وغلبتها. وتنظيم الدوافع الفطرية في صورة مثمرة نظيفة، لا يخجل الأطفال معها من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم، لأنها طريقة نظيفة معروفة، يعرف فيها كل طفل أباه. لا كالحيوان الهابط الذي تلقى الأنثى فيه الذكر للقاح، وبدافع اللقاح، ثم لا يعرف الفصيل كيف جاء ولا من أين جاء!.
والقرآن هنا يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل ان يودعها بذور الحياة: {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين}.
ومسألة الأزواج لا تثير شبهة ولا تستدعي جدلاً. فهي النظام المشروع المعروف. أما مسألة ملك اليمين فقد تستدعي شيئاً من البيان.
ولقد فصلت القول في مسألة الرق في الجزء الثاني من الظلال، وبينت هناك أن الإسلام قد جاء والرق نظام عالمي. واسترقاق أسرى الحرب نظام دولي. فما كان يمكن والإسلام مشتبك في حروب مع أعدائه الواقفين بالقوة المادية في طريقه أن يلغي هذا النظام من جانب واحد، فيصبح أسارى المسلمين رقيقاً عند اعدائه، بينما هو يحرر أسارى الأعداء.. فجفف الإسلام كل منابع الرق عدا أسرى الحرب إلى أن يتاح للبشرية وضع نظام دولي للتعامل بالمثل في مسألة الأسرى.
ومن هنا كان يجيء إلى المعسكر الإسلامي أسيرات، تقضي قاعدة التعامل بالمثل باسترقاقهن ومن مقضيات هذا الاسترقاق ألا يرتفعن إلى مستوى الزوجات بالنكاح. فأباح الإسلام حينئذ الاستماع بهن بالتسري لمن يملكهن خاصة إلا أن يتحرَّرن لسبب من الأسباب الكثيرة التي جعلها الإسلام سبلاً لتحرير الرقيق.
ولعل هذا الاستمتاع ملحوظ فيه تلبية الحاجة الفطرية للأسيرات أنفسهن، كي لا يشبعنها عن طريق الفوضى القذرة في المخالطة الجنسية كما يقع في زماننا هذا مع أسيرات الحرب بعد معاهدات تحريم الرقيق هذه الفوضى التي لا يحبها الإسلام! وذلك حتى يأذن الله فيرتفعن إلى مرتبة الحرية. والأمة تصل إلى مرتبة الحرية بوسائل كثيرة.. إذا ولدت لسيدها ثم مات عنها. وإذا أعتقها هو تطوعاً أو في كفارة. وإذا طلبت أن تكاتبه على مبلغ من المال فافتدت به رقبتها. وإذا ضربها على وجهها فكفارتها عتقها.. الخ.
وعلى أية حال فقد كان الإسترقاق في الحرب ضرورة وقتية، هي ضرورة المعاملة بالمثل في عالم كله يسترق الأسرى، ولم يكن جزءاً من النظام الاجتماعي في الإسلام.
{فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}.. وراء الزوجات وملك اليمين، ولا زيادة بطريقة من الطرق. فمن ابتغى وراء ذلك فقد عدا الدائرة المباحة، ووقع في الحرمات، واعتدى على الأعراض التي لم يستحلها بنكاح ولا بجهاد. وهنا تفسد النفس لشعورها بأنها ترعى في كلأ غير مباح، ويفسد البيت لأنه لا ضمان له ولا اطمئنان؛ وتفسد الجماعة لأن ذئابها تنطلق فتنهش من هنا ومن هناك: وهذا كله هو الذي يتوقاه الإسلام.
{والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} راعون لأماناتهم وعهدهم أفراداً؛ وراعون لأماناتهم وعهدهم جماعة..
والأمانات كثيرة في عنق الفرد وفي عنق الجماعة؛ وفي أولها أمانة الفطرة؛ وقد فطرها الله مستقيمة متناسقة مع ناموس الوجود الذي هي منه وإليه شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته، بحكم إحساسها الداخلي بوحدة الناموس الذي يحكمها ويحكم الوجود، ووحدة الإرادة المختارة لهذا الناموس المدبرة لهذا الوجود.
والمؤمنون يرعون تلك الأمانة الكبرى فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها، فتظل قائمة بأمانتها شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته. ثم تأتي سائر الأمانات تبعاً لتلك الأمانة الكبرى.
والعهد الأول هو عهد الفطرة كذلك. وهو العهد الذي قطعه الله على فطرة البشر بالإيمان بوجوده وبتوحيده. وعلى هذا العهد الأول تقوم جميع العهود والمواثيق. فكل عهد يقطعه المؤمن يجعل الله شهيداً عليه فيه، ويرجع في الوفاء به إلى تقوى الله وخشيته.
والجماعة المسلمة مسؤولة عن أماناتها العامة، مسؤولة عن عهدها مع الله تعالى، وما يترتب على هذا العهد من تبعات. والنص يجمل التعبير ويدعه يشمل كل أمانة وكل عهد. ويصف المؤمنين بأنهم لأماناتهم وعهدهم راعون. فهي صفة دائمة لهم في كل حين. وما تستقيم حياة الجماعة إلا أن تؤدى فيها الأمانات؛ وترعى فيها العهود؛ ويطمئن كل من فيها إلى هذه القاعدة الأساسية للحياة المشتركة، الضرورية لتوفير الثقة والأمن والاطمئنان.
{والذين هم على صلواتهم يحافظون}.. فلا يفوّتونها كسلاً، ولا يضيعونها إهمالاً؛ ولا يقصرون في إقامتها كما ينبغي أن تقام؛ إنما يؤدونها في أوقاتها كاملة الفرائض والسنن، مستوفية الأركان والآداب، حية يستغرق فيها القلب، وينفعل بها الوجدان. والصلاة صلة ما بين القلب والرب، فالذي لا يحافظ عليها لا ينتظر أن يحافظ على صلة ما بينه وبين الناس محافظة حقيقية مبعثها صدق الضمير.. ولقد بدأت صفات المؤمنين بالصلاة وختمت بالصلاة للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان، بوصفها أكمل صورة من صور العبادة والتوجه إلى الله.
تلك الخصائص تحدد شخصية المؤمنين المكتوب لهم الفلاح. وهي خصائص ذات أثر حاسم في تحديد خصائص الجماعة المؤمنة ونوع الحياة التي تحياها. الحياة الفاضلة اللائقة بالإنسان الذي كرمه الله؛ وأراد له التدرج في مدارج الكمال. ولم يرد له أن يحيا حياة الحيوان، يستمتع فيها ويأكل كما تأكل الأنعام.
ولما كانت الحياة في هذه الأرض لا تحقق الكمال المقدر لبني الإنسان، فقد شاء الله أن يصل المؤمنون الذين ساروا في الطريق، إلى الغاية المقدرة لهم، هنالك في الفردوس، دار الخلود بلا فناء، والأمن بلا خوف، والإستقرار بلا زوال:
{أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}..
وتلك غاية الفلاح الذي كتبه الله للمؤمنين. وليس بعدها من غاية تمتد إليها عين أو خيال..
ومن صفات المؤمنين ينتقل إلى دلائل الإيمان في حياة الإنسان ذاته، وفي أطوار وجوده ونموه، مبتدئاً بأصل النشأة الإنسانية، منتهياً إلى البعث في الآخرة مع الربط بين الحياتين في السياق:
{ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً.
ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون}..
وفي أطوار هذه النشأة، وتتابعها بهذا النظام، وبهذا الاطراد، ما يشهد بوجود المنشئ أولاً، وما يشهد بالقصد والتدبير في تلك النشأة وفي اتجاهها أخيراً. فما يمكن أن يكون الأمر مصادفة عابرة، ولا خبط عشواء بدون قصد ولا تدبير؛ ثم تسير هذه السيرة التي لا تنحرف، ولا تخطئ، ولا تتخلف؛ ولا تسير في طريق آخر من شتى الطرق التي يمكن عقلاً وتصوراً أن تسير فيها. إنما تسير النشأة الإنسانية في هذا الطريق دون سواه من شتى الطرق الممكنة بناء على قصد وتدبير من الإرادة الخالقة المدبرة في هذا الوجود.
كما أن في عرض تلك الأطوار بهذا التتابع المطرد، ما يشير إلى أن الإيمان بالخالق المدبر، والسير على نهج المؤمنين الذي بينه في المقطع السابق.. هو وحده الطريق إلى بلوغ الكمال المقدر لتلك النشأة؛ في الحياتين: الدنيا والآخرة. وهذا هو المحور الذي يجمع بين المقطعين في سياق السورة.
{ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين}.. وهذا النص يشير إلى أطوار النشأة الإنسانية ولا يحددها. فيفيد أن الإنسان مر بأطوار مسلسلة، من الطين إلى الإنسان. فالطين هو المصدر الأول، أو الطور الأول. والإنسان هو الطور الأخير.. وهي حقيقة نعرفها من القرآن، ولا نطلب لها مصداقاً من النظريات العلمية التي تبحث عن نشأة الإنسان، أو نشأة الأحياء.
إن القرآن يقرر هذه الحقيقة ليتخذها مجالاً للتدبر في صنع الله، ولتأمل النقلة البعيدة بين الطين وهذا الإنسان المتسلسل في نشأته من ذلك الطين. ولا يتعرض لتفصيل هذا التسلسل لأنه لا يعنيه في أهدافه الكبيرة. أما النظريات العلمية فتحاول إثبات سلم معين للنشوء والإرتقاء، لوصل حلقات السلسلة بين الطين والإنسان. وهي تخطئ وتصيب في هذه المحاولة التي سكت القرآن عن تفصيلها وليس لنا أن نخلط بين الحقيقة الثابتة التي يقررها القرآن.. حقيقة التسلسل.. وبين المحاولات العلمية في البحث عن حلقات هذا التسلسل وهي المحاولات التي تخطئ وتصيب، وتثبت اليوم وتنقض غداً، كلما تقدمت وسائل البحث وطرائقه في يد الإنسان.
والقرآن يعبر أحياناً عن تلك الحقيقة باختصار فيقول: {بدأ خلق الإنسان من طين}.. دون إشارة إلى الأطوار التي مر بها. والمرجع في هذا النص الأكثر تفصيلاً، وهو الذي يشير إلى أنه {من سلالة من طين} فالنص الآخر يختصر هذه الأطوار لمناسبة خاصة في السياق هناك.
أما كيف تسلسل الإنسان من الطين فمسكوت عنه كما قلنا لأنه غير داخل في الاهداف القرآنية. وقد تكون حلقاته على النحو الذي تقول به النظريات العلمية وقد لا تكون؛ وتكون الأطوار قد تمت بطريق آخر لم يعرف بعد، وبسبب عوامل وعلل أخرى لم يكشف عنها الإنسان.
ولكن مفرق الطريق بين نظرة القرآن إلى الإنسان ونظرة تلك النظريات أن القرآن يكرم هذا الإنسان؛ ويقرر أن فيه نفخة من روح الله هي التي جعلت من سلالة الطين إنساناً، ومنحته تلك الخصائص التي بها صار إنساناً وافترق بها عن الحيوان. وهنا تفترق نظرة الإسلام افتراقاً كلياً عن نظرة الماديين. والله أصدق القائلين.
ذلك أصل نشأة الجنس الإنساني.. من سلالة من طين.. فأما نشأة الفرد الإنساني بعد ذلك، فتمضي في طريق آخر معروف:
{ثم جعلناه نطفة في قرار مكين}.. لقد نشأ الجنس الإنساني من سلالة من طين. فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب رجل، فتستقر في رحم امرأة. نقطة مائية واحدة. لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة في تلك النقطة. تستقر: {في قرار مكين}.. ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض، المحمية بها من التأثر باهتزازات الجسم، ومن كثير مما يصيب الظهر والبطن من لكمات وكدمات، ورجات وتأثرات!
والتعبير القرآني يجعل النطفة طوراً من اطوار النشأة الإنسانية، تالياً في وجوده لوجود الإنسان.. وهي حقيقة. ولكنها حقيقة عجيبة تدعو إلى التأمل، فهذا الإنسان الضخم يختصر ويلخص بكل عناصره وبكل خصائصه في تلك النطفة، كما يعاد من جديد في الجنين وكي يتجدد وجوده عن طريق ذلك التلخيص العجيب.
ومن النطفة إلى العلقة. حينما تمتزج خلية الذكر ببويضة الأنثى، وتعلق هذه بجدار الرحم نقطة صغيرة في أول الأمر، تتغدى بدم الأم..
ومن العلقة إلى المضغة، حينما تكبر تلك النقطة العالقة، وتتحول إلى قطعة من دم غليظ مختلط..
وتمضي هذه الخليقة في ذلك الخط الثابت الذي لا ينحرف ولا يتحول، ولا تتوانى حركته المنظمة الرتيبة. وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير.. حتى تجيء مرحلة العظام.. {فخلقنا المضغة عظاماً} فمرحلة كسوة العظام باللحم: {فكسونا العظام لحماً}.. وهنا يقف الإنسان مدهوشاً أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيراً بعد تقدم علم الأجنة التشريحي. ذلك أن خلايل العظام غير خلايا اللحم. وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولاً في الجنين. ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور العظام، وتمام الهيكل العظمي للجنين. وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني: {فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً}.. فسبحان العليم الخبير!